الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ والنكبة: الموقف والدور | فصل

«الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ والنكبة: الموقف والدور» (2022)

 

صدر حديثًا للمؤرّخ الفلسطينيّ الدكتور محمود محارب كتاب «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ والنكبة: الموقف والدور». جاء الكتاب، الّذي أصدره «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات»، في 232 صفحة احتوت على خمسة فصول وخلاصة ومجموعة من الوثائق. هذا الكتاب هو دراسة تاريخيّة تعالج دور «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» في النكبة خلال حرب عام 1948، استنادًا إلى وثائقه وأدبيّاته المنشورة باللغتين العبريّة والعربيّة، والموجودة في عدد من الأرشيفات الإسرائيليّة، ولا سيّما أرشيف «المكتبة الوطنيّة» في القدس الغربيّة، وأرشيف «معهد لافون» في تلّ أبيب. تشمل تلك الوثائق قرارات المؤتمرات العامّة وقرارات اللجنة المركزيّة والمكتب السياسيّ لـ «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ»، وكتابات قياديّيه وكوادره، وصحف الحزب وبياناته وإعلاناته في المناسبات المختلفة، إلى جانب المراجع الأخرى الّتي عالجت حرب عام 1948 والنكبة.

تنشر فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بإذن من الكاتب. 

 


 

كان دعم «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ»، في تشرين الأوّل (أكتوبر) 1947، إنشاء دولة يهوديّة للمستوطنين اليهود في فلسطين، تتويجًا للتغيير التدريجيّ الّذي حدث في سياسته تجاه القضيّة الفلسطينيّة والمشروع الصهيونيّ، منذ مؤتمره العامّ المنعقد في عام 1944، الّذي عبّر فيه عن قناعته بأنّ المستوطنين اليهود في فلسطين باتوا يشكّلون أقلّيّة قوميّة لها حقوقها القوميّة في فلسطين. وشرع «الحزب الشيوعيّ» منذ مؤتمره العامّ الثامن في السير بخطًى ثابتة نحو الصهيونيّة، ونحو تحقيق هدفها الأساسيّ؛ وهو إنشاء وطن قوميّ يهوديّ ودولة يهوديّة في فلسطين، إلى أن تماهى مع هذا الهدف، ووضع طاقاته كلّها لتحقيقه. دعم «الحزب الشيوعيّ» في مؤتمره العامّ التاسع، المنعقد في عام 1945، إنشاء وطن قوميّ يهوديّ في فلسطين، ودعا إلى "التطوّر الحرّ للوطن القوميّ اليهوديّ" في فلسطين، وطالب بفتح أبواب الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين، وتسهيل الاستيطان اليهوديّ فيها. وأعرب مؤتمره العامّ العاشر في عام 1946 عن قناعته بأنّ "الوطن القوميّ اليهوديّ بات حقيقة"، وأنّ المستوطنين اليهود في فلسطين باتوا يشكّلون أمّة لها حقوق قوميّة في فلسطين، ودعا إلى إقامة دولة ثنائيّة القوميّة عربيّة - يهوديّة، في فلسطين، وذلك في الوقت الّذي كان فيه الاتّحاد السوفياتيّ لا يزال يرفض إنشاء وطن قوميّ يهوديّ في فلسطين من منطلقات أيديولوجيّة وسياسيّة.

 

الصهيونيّة أوّلًا

لقد ساهمت عوامل أساسيّة عدّة في تبنّي «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ»، بقيادة شموئيل ميكونِس ومئير فلنر، هذه المواقف المشار إليها سابقًا، وكان أهمّها الخلفيّة الصهيونيّة لتأسيس «الحزب الشيوعيّ» وواقع وجوده في فلسطين، باعتباره جزءًا من حركة كولونياليّة استيطانيّة تسعى إلى إقامة دولة للمستوطنين اليهود في فلسطين، على حساب الشعب العربيّ الفلسطينيّ وأنقاضه. كان قادة «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» وأعضاؤه مستوطنين يهودًا، جاؤوها مهاجرين من أوروبّا في إطار حركات وأحزاب صهيونيّة يساريّة، في سياق الهجرة الصهيونيّة إلى فلسطين. وقد ظلّوا منخرطين في مجتمع المستوطنين الكولونياليّين اليهود في فلسطين، ولم يحاولوا الانسلاخ عنه، كما لم يسعوا إلى الاندماج في الشعب العربيّ الفلسطينيّ الّذي كان يشكّل الأغلبيّة العظمى في فلسطين، فظلّوا غرباء عن الشعب الفلسطينيّ، كما كانت حال مجمل مجتمع المستوطنين الكولونياليّين اليهود في فلسطين. أضف إلى ذلك، ازدياد تأثير الأيديولوجيّة الصهيونيّة في «الحزب الشيوعيّ»، خلال الحرب العالميّة الثانية وبعدها، في ضوء المحرقة الّتي تعرّض لها اليهود في أوروبّا خلال تلك الحرب. 

دعم «الحزب الشيوعيّ» في مؤتمره العامّ التاسع (...) إنشاء وطن قوميّ يهوديّ في فلسطين، ودعا إلى "التطوّر الحرّ للوطن القوميّ اليهوديّ" في فلسطين، وطالب بفتح أبواب الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين، وتسهيل الاستيطان اليهوديّ فيها...

لقد كانت المسافة قصيرة بين تأكيد «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ»، في عام 1946، أنّ الوطن القوميّ اليهوديّ بات حقيقة، وإمكانيّة دعمه إقامة دولة يهوديّة للمستوطنين اليهود في فلسطين. لكن كانت لا تزال حينئذٍ توجد عقبة مهمّة أمام إمكانيّة دعم «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» إنشاء دولة يهوديّة في فلسطين، وهي موقف الاتّحاد السوفياتيّ الّذي كان يعارض بوضوح - حتّى تصريح أندريه غروميكو في أيّار (مايو) 1947 - إنشاء دولة يهوديّة في فلسطين. وما إن حسم الاتّحاد السوفياتيّ موقفه، وبدأ يؤيّد منذ 13 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1947 توصية الأغلبيّة في «لجنة الأمم المتّحدة» الخاصّة بفلسطين، الّتي كانت الولايات المتّحدة الأمريكيّة تقودها بكلّ قوّة، والقاضية بتقسيم فلسطين وإنشاء دولتين فيها، واحدة يهوديّة وأخرى عربيّة، حتّى سارع الحزب إلى دعم إنشاء دولة يهوديّة في فلسطين، وبدأ يعمل بطاقاته كلّها لإنشاء الدولة اليهوديّة، قبل شهر ونصف الشهر من إصدار «الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة» قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين، في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947. وانسجامًا مع موقفه السياسيّ الجديد، حينئذٍ، غيّر الحزب اسمه من «الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ» إلى «الحزب الشيوعيّ الأرض - إسرائيليّ».

 

التنظيم في خدمة الصهيونيّة

وفور صدور قرار التقسيم، انخرط الحزب في الإستراتيجيّة الإسرائيليّة طيلة حرب عام 1948، في جميع المجالات العسكريّة والسياسيّة والفكريّة والإعلاميّة والأمميّة، من أجل إقامة الدولة اليهوديّة في فلسطين وفرضها بقوّة السلاح على الشعب العربيّ الفلسطينيّ. بل زايد على الحركات الصهيونيّة الأخرى في الوطنيّة الإسرائيليّة، وحاول أن يوفّق بين هذه المواقف وأيديولوجيّته باستخدام مصطلحات طبقيّة على صراع وطنيّ مع حركة صهيونيّة استعماريّة، مثل اعتبار الفلسطينيّين مخدوعين من رجعيّة عربيّة وعصابات، وأنّهم عملاء للإنجليز. وقد أخذ «الحزب الشيوعيّ» منذئذٍ، وطيلة حرب عام 1948، مواقف متشدّدة في شأن إنشاء الدولة اليهوديّة وتوسيع حدودها، فاقت في كثير من الأحيان مواقف قيادة «ألييشوف اليهوديّ» والحكومة الإسرائيليّة المؤقّتة الّتي شرع «الحزب الشيوعيّ» في اتّهامها بالتقصير في حشد طاقات الشعب اليهوديّ لإقامة الدولة اليهوديّة، وبالتهادن مع الدول الاستعماريّة وخضوعها لإملاءاتها، سواءً في ما يخصّ مسألة عدم الإسراع في اتّخاذ الإجراءات لإنشاء الدولة اليهوديّة، أو اتّهامها بعدم إقدامها على احتلال المزيد من المناطق الواقعة خارج حدود الدولة اليهوديّة بسبب انصياعها لإملاءات الدول الاستعماريّة. ولهذا الغرض، كان مستعدًّا لتزوير التاريخ؛ باعتبار بريطانيا والولايات المتّحدة أعداءً لمشروع إقامة الدولة اليهوديّة. 

وبالرغم من إعلانه قبول قرار التقسيم، فإنّ «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» اتّخذ موقفًا مخاتلًا في شأن تنفيذ هذا القرار، وخاصّة في شأن إنشاء الدولة العربيّة الفلسطينيّة، ولم يلتزم بأيّ بند من بنوده، إلّا ببند إقامة الدولة اليهوديّة في فلسطين. وفي سياق اندماجه الكامل في الإستراتيجيّة الإسرائيليّة في حرب عام 1948، لفرض قيام الدولة اليهوديّة بقوّة السلاح ضدّ إرادة الشعب العربيّ الفلسطينيّ على أكبر مساحة ممكنة من فلسطين، اتّخذ «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» السياسات والخطوات التالية:

أوّلًا: انخرط أعضاء «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» وأنصاره، في بداية عام 1948، في صفوف «البلماح» و«الهاغاناة»، ومن ثَمّ في الجيش الإسرائيليّ عند تأسيسه في 26 أيّار (مايو) 1948، وشاركوا في القتال ضدّ الشعب الفلسطينيّ والدول العربيّة، وفي احتلال المدن والبلدات والقرى الفلسطينيّة، كما في ارتكاب المجازر بحقّهم وطردهم منها.

ثانيًا: وضع الحزب علاقاته بدول أوروبّا الشرقيّة تحت تصرّف القيادة الصهيونيّة، لغرض تحصيل السلاح وتأمين هجرة شباب يهود قادرين على القتال إلى إسرائيل. وسعى بطاقاته كلّها إلى الحصول على السلاح الحديث والعتاد والمقاتلين والخبراء العسكريّ. وفي هذا السياق، زار عدد من قياديّي «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» دول أوروبّا الشرقيّة، ومن ضمنهم أمين عام الحزب شموئيل ميكونِس، الّذي مكث في كلٍّ من رومانيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا وبلغاريا وبولندا نحو خمسة أشهر، في الفترة ما بين شباط (فبراير) وتمّوز (يوليو) 1948، عاد خلالها إلى تلّ أبيب في شهر أيّار (مايو) فترة وجيزة.

وقد ساهم «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» مساهمة مهمّة؛ من خلال علاقاته الرفاقيّة بالأحزاب الشيوعيّة الحاكمة آنذاك في دول أوروبّا الشرقيّة، في تسهيل حصول «ألييشوف اليهوديّ»، ومن ثَمّ إسرائيل، على مختلف أشكال الدعم العسكريّ والسياسيّ لخدمة حربها ضدّ الشعب العربيّ الفلسطينيّ والدول العربيّة. وقد ساهم مساهمة مهمّة أيضًا من خلال علاقاته بالقيادة التشيكوسلوفاكيّة، بعد وصول الشيوعيّين إلى الحكم في تشيكوسلوفاكيا، في شباط (فبراير) 1948، في تسهيل حصول إسرائيل على كمّيّات كبيرة للغاية من مختلف الأسلحة الخفيفة والمتوسّطة والثقيلة، وفاخر بتأمين بيع تشيكوسلوفاكيا إلى إسرائيل 85 طائرة عسكريّة، وتدريب طيّاريها الإسرائيليّين وغيرهم في تشيكوسلوفاكيا، الّتي شكّلت سلاح الجوّ الإسرائيليّ، وشاركت مشاركة فعّالة في حرب عام 1948.

ساهم «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» من خلال علاقاته الرفاقيّة بالأحزاب الشيوعيّة الحاكمة آنذاك في دول أوروبّا الشرقيّة، في تسهيل حصول «ألييشوف اليهوديّ»، ومن ثَمّ إسرائيل، على مختلف أشكال الدعم العسكريّ والسياسيّ لخدمة حربها ضدّ الشعب العربيّ الفلسطينيّ...

لقد كان «ألييشوف اليهوديّ» بأمسّ الحاجة إلى السلاح والعتاد في تلك الفترة؛ إذ كانت «الهاغاناة» تملك حتّى شهر آذار (مارس) 1948 نحو عشرة آلاف بندقيّة فقط، علاوة على القليل من الأسلحة الخفيفة والمتوسّطة الأخرى. وبفضل صفقات الأسلحة الّتي عقدها «ألييشوف» وإسرائيل مع تشيكوسلوفاكيا، الّتي ساهم الحزب مساهمة مهمّة في تسهيلها، بدأت تتدفّق، منذ نهاية آذار (مارس) 1948، مختلف أنواع الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا إلى «ألييشوف»، ومن ثَمّ إلى إسرائيل. قد حلّ وصول هذا السلاح إلى إسرائيل في تلك الفترة الحاسمة المشكلة الأساسيّة المتمثّلة في نقص السلاح، ومكّنها من تسليح جيشها بهذا السلاح أساسًا، الّذي خاضت به الحرب. وقد ساهم الحزب مساهمة مهمّة، عبر علاقاته بتلك الدول، بتزويد إسرائيل بالمقاتلين والخبراء العسكريّين اليهود، ونقل المقاتلين اليهود إبّان الحرب.

 

الهجرة الشيوعيّة

ثالثًا: بادر أمين عام الحزب، ميكونِس، أثناء وجوده في تشيكوسلوفاكيا إلى إقامة الفيلق التشيكوسلوفاكيّ الّذي شُكّل من مقاتلين تشيكوسلوفاكيّين - يهود أساسًا - ذوي الخبرة العسكريّة. وقد بلغ تعداد هذا الفيلق 1,500 عسكريّ، انخرطوا في الجيش الإسرائيليّ عند وصولهم إلى إسرائيل، في الفترة الممتدّة من كانون الأوّل (ديسمبر) 1948 إلى شباط (فبراير) 1949.

رابعًا: أولى «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» أهمّيّة قصوى، مثل بقيّة الأحزاب الإسرائيليّة، لهجرة يهود أوروبّا الشرقيّة إلى إسرائيل في تلك الفترة، لسببين رئيسيّين: الأوّل، من أجل مدّ إسرائيل بالطاقة البشريّة المقاتلة للمشاركة في حرب 1948؛ والثاني، من أجل توطين المهاجرين اليهود في المدن والبلدات والقرى الفلسطينيّة الّتي هجّر الجيش الإسرائيليّ الفلسطينيّين منها، وذلك لتهويدها وخلق واقع ديمغرافيّ جديد يحول دون عودة اللاجئين الفلسطينيّين إليها. وقد ساهمت الجهود الّتي بذلها «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ»، إلى جانب جهود الحكومة الإسرائيليّة، في هجرة 250 ألف يهوديّ من دول أوروبّا الشرقيّة، منذ عشيّة صدور قرار التقسيم حتّى نهاية عام 1949، وقد جرى توطينهم بتأييد علنيّ وواضح من «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» في بيوت العرب الفلسطينيّين في المدن والبلدات والقرى العربيّة الّتي هجّر الجيش الإسرائيليّ الفلسطينيّين منها. وفي العديد من الحالات، بادر الحزب الشيوعيّ بنفسه إلى توطين أنصاره وأعضائه من المهاجرين اليهود الجدد في القرى الفلسطينيّة، كما حدث في قرية إجزم (كيرم مهرال) والجاعونة (روش بينا). 

 

دفاعًا عن إسرائيل 

خامسًا: بخلاف موقفه الداعم للهجرة اليهوديّة من أوروبّا الشرقيّة ودول العالم إلى إسرائيل، والمنادي بتنفيذها فورًا وبأسرع وقت، ومن دون قيد أو شرط، لم يطالب «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» في تلك الفترة – ولا حتّى لاحقًا - بعودة اللاجئين الفلسطينيّين إلى ديارهم الّتي هُجّروا منها من دون قيد أو شرط؛ ففي الوقت الّذي أقرّ بحقّ اللاجئين الفلسطينيّين بالعودة نظريًّا، فإنّه ربط تحقيق هذا الحقّ بالتوصّل إلى حلّ للقضيّة الفلسطينيّة وللصراع العربيّ – الإسرائيليّ، من خلال مفاوضات مباشرة بين إسرائيل والدول العربيّة، وهو الأمر الّذي كان تحقيقه مستبعدًا جدًّا في تلك الفترة.

سادسًا: دعم الحزب بشكل صريح وواضح احتلال الجيش الإسرائيليّ مناطق واسعة تابعة للدولة العربيّة الفلسطينيّة وفق قرار التقسيم.

سابعًا: تمسّك الحزب بشدّة بجميع الأراضي الّتي احتلّها الجيش الإسرائيليّ، والتابعة للدولة العربيّة الفلسطينيّة وفق قرار التقسيم، ورفض انسحاب الجيش الإسرائيليّ منها، واعتبرها جزءًا من إسرائيل، ودعم إقامة المستوطنات اليهوديّة فيها على أنقاض القرى والبلدات الفلسطينيّة الّتي طرد الجيش الإسرائيليّ الفلسطينيّين منها.

ثامنًا: أيّد الحزب احتلال «الهاغاناة» والجيش الإسرائيليّ للقدس ومنطقتها وقراها العربيّة، الّتي كانت تقع جميعها خارج حدود الدولة اليهوديّة وفق قرار التقسيم، وتقع في منطقة الوصاية الدوليّة وفق ذلك القرار. وقد عدّ «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» هذا الاحتلال ’تحريرًا‘، واعتبر القدس جزءًا من دولة إسرائيل، ورفض بشدّة انسحاب الجيش الإسرائيليّ من المناطق الّتي احتلّها في القدس، وانتقد الحكومة الإسرائيليّة بسبب تقصيرها، وفق اعتقاده، في احتلال القدس العربيّة القديمة.

تاسعًا: كان الحزب يدرك أنّ العرب الفلسطينيّين يشكّلون نصف السكّان على الأقلّ، في المنطقة الّتي خصّصها قرار التقسيم لإقامة الدولة اليهوديّة، وفق ما صرّح به «الحزب الشيوعيّ» نفسه قبل صدور هذا القرار. وكان الحزب يدرك أيضًا أنّه لا يمكن أن تكون الدولة اليهوديّة الّتي يشكّل الفلسطينيّون نصف سكّانها على الأقلّ يهوديّة فعلًا، إلّا بطرد جميع الفلسطينيّين أو أغلبيّتهم منها. ولم يكن حينئذٍ موضوع طرد الفلسطينيّين من المنطقة الّتي ستقام عليها الدولة اليهوديّة أحجيّة لدى قيادة الحركة الصهيونيّة والوكالة اليهوديّة في فلسطين، وإنّما كان أمرًا مفروغًا منه، ولا بدّ من القيام به باعتباره جزءًا من إقامة الدولة اليهوديّة، لأنّه من دون تنفيذه لن تكون هذه الدولة دولة يهوديّة، وإنّما دولة ثنائيّة القوميّة. ولم تشأ القيادة الإسرائيليّة، ولا «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ»، أن تحمّل إسرائيل مسؤوليّة طرد الفلسطينيّين الّذي اعتبراه شرًّا، أو ربّما خيرًا، لا بدّ منه؛ لأنّ لهذا الأمر تبعات سياسيّة وقانونيّة وأخلاقيّة. لذلك، اختار «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ»، منسجمًا في موقفه مع موقف الحكومة الإسرائيليّة والرواية التاريخيّة الإسرائيليّة، أن ينفي تنفيذ التنظيمات العسكريّة اليهوديّة والجيش الإسرائيليّ طرد الفلسطينيّين من ديارهم، وأن يبرّئ إسرائيل من هذه الجريمة، وأن يحمّل مسؤوليّتها إلى القيادة الفلسطينيّة والاستعمار البريطانيّ وقيادات الدول العربيّة، ويدّعي أنّها مؤامرة استعماريّة لتشويه سمعة إسرائيل.

نفى الحزب تنفيذ التنظيمات العسكريّة اليهوديّة والجيش الإسرائيليّ طرد الفلسطينيّين من ديارهم، وأن يبرّئ إسرائيل من هذه الجريمة، وأن يحمّل مسؤوليّتها إلى القيادة الفلسطينيّة والاستعمار البريطانيّ وقيادات الدول العربيّة...

ولم يكتفِ الحزب بتبرئة التنظيمات العسكريّة اليهوديّة والجيش الإسرائيليّ، من طرد الفلسطينيّين من المنطقة المخصّصة للدولة اليهوديّة وفق قرار التقسيم، وإنّما بَرّأ أيضًا الجيش الإسرائيليّ من طرد الفلسطينيّين من المناطق الّتي احتلّها، والتابعة للدولة العربيّة الفلسطينيّة وفق ذلك القرار. وقد كانت عمليّات الجيش الإسرائيليّ في طرد الفلسطينيّين من المنطقة التابعة للدولة العربيّة الفلسطينيّة معروفة وواضحة لمجتمع المستوطنين اليهود في فلسطين، وعلمت بها حينئذٍ جميع القيادات والنخب الإسرائيليّة، بما فيها قيادة «الحزب الشيوعيّ»، مثل طرد الفلسطينيّين من مدينتَي اللدّ والرملة وقراهما، وغيرها كثير من المناطق، الّتي لم يكن فيها لا جيش عربيّ ولا بريطانيّ. ولكنّ الحزب أصرّ على تبرئة الجيش الإسرائيليّ من هذه الجريمة، وأصرّ على تحميلها للقيادة الفلسطينيّة والاستعمار البريطانيّ وقيادات الدول العربيّة، وعلى ادّعائه أنّها مؤامرة استعماريّة بريطانيّة.   

عاشرًا: تجاهل «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة، والفظائع والقتل بدم بارد، وعمليّات الاغتصاب، والمجازر الكثيرة الّتي ارتكبتها التنظيمات العسكريّة اليهوديّة والجيش الإسرائيليّ بحقّ الفلسطينيّين في حرب 1948، في طول فلسطين وعرضها، وقد زادت على 110 مجازر. وبدلًا من أن يدين جرائم الحرب والمجازر تلك، الّتي ارتكبتها المنظّمات العسكريّة اليهوديّة والجيش الإسرائيليّ، الّذي كان يخدم فيه نحو 3,000 من أعضاء الحزب في عام 1948 وبداية عام 1949، جنبًا إلى جنب مع قوّات «البلماح» و«الهاغاناة» و«إتسِل وليحي» الّتي انخرطت في الجيش الإسرائيليّ بعد تشكيله، فإنّ «الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ» مجّد الجيش الإسرائيليّ، وادّعى أنّه يقاتل من أجل "التحرّر من الاستعمار البريطانيّ"، علمًا أنّ هذا الجيش لم يطلق رصاصة واحدة طيلة حرب عام 1948 ضدّ الجيش البريطانيّ.         

 


 

محمود محارب

        

 

 

باحث وأستاذ جامعيّ فلسطينيّ، حصل على الدكتوراة في «العلوم السياسيّة» من «جامعة ريدينغ» في بريطانيا. ساهم في تأسيس «حركة أبناء البلد» كما ساهم في تأسيس «حزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ».